أزمة القيم والنخب- المغرب في دوامة التدهور الفكري والأخلاقي

المؤلف: حسن أوريد09.30.2025
أزمة القيم والنخب- المغرب في دوامة التدهور الفكري والأخلاقي

شهد المغرب في غضون شهر واحد فقط، سلسلة من الأحداث التي تنم عن تدهور فكري مذهل وتراجع أخلاقي مقلق. كل قضية من هذه القضايا كانت تستحق أن تتصدر المشهد العام وأن تشغل الرأي العام، إلا أنها كادت تمر مرور الكرام، باستثناء الحادثة الأخيرة، عندما انتقد مالك إحدى أكبر المؤسسات الإعلامية المغربية المحكمة الجنائية الدولية بسبب إدانتها لنتنياهو وغالانت، زاعمًا أن قرار المحكمة يمثل مساسًا بسيادة إسرائيل وتدخلاً سافرًا في شؤون القضاء الإسرائيلي، وهو الأمر الذي أثار استياء واسعًا ورفضًا قاطعًا من قبل أصحاب الفكر والرأي.

أولى هذه القضايا المثيرة للجدل، تلك المتعلقة بقيادية سياسية تنتمي إلى تيار اليسار الجديد، الذي ينتقد بشدة تخلي اليسار القديم عن مبادئه الأساسية، حيث دعت من داخل البرلمان إلى ضرورة أن يصدح الخطباء في المساجد بالدعوة إلى الجهاد في فلسطين، مذكرةً بتاريخ المغرب الحافل بالجهاد والمجاهدين، وأن المغرب سبق له فتح الأندلس وغزوها.

لا شك في نقاء نوايا هذه الزعيمة اليسارية، وفي صواب توجهاتها فيما يتعلق بوجوب نصرة المظلوم والدفاع عنه، لكن مفهوم الجهاد والفتح والغزو لم يكن يومًا جزءًا من المرجعية اليسارية، بل هو بكل تأكيد جزء لا يتجزأ من المرجعية الإسلامية. وكان الأجدر بالزعيمة اليسارية أن تكتفي بالدفاع عن واجب النصرة وعن حرية الأئمة في التعبير عن آرائهم في خطبهم، دون الحاجة إلى التذكير بفتح الأندلس واحتلالها، كما ورد في سياق حديثها.

المفارقة الثانية، تتعلق بوزير الأوقاف والشؤون الإسلامية المغربي، الذي أفشى تفاصيل لقائه مع وزير الداخلية الفرنسي، حيث صرح المسؤول عن الشأن الديني في المغرب بأن المغرب دولة علمانية، وأن كل فرد حر في اختيار ما يراه مناسبًا له، الأمر الذي أثار دهشة الوزير الفرنسي، الذي "فغر فاه" على حد تعبير الوزير المغربي، وطالب بعقد لقاء ثانٍ، لأن "اجتهاد" الوزير المغربي يمنح الوزير الفرنسي الذريعة لمواصلة حربه ضد "أهالي الجمهورية"، أو بالأحرى مسلمي فرنسا.

حاول الوزير جاهدًا أن يقلل من أهمية تصريحاته، مؤكدًا أن العلمانية تتنوع بتنوع السياقات، لكن محاولاته باءت بالفشل. بالطبع، لم يأت الوزير بجديد، فالواقع يشير إلى وجود علمنة مع وقف التنفيذ، كما يصفها بعض الباحثين العلمانيين، ولكن ليس من صلاحيات وزير الأوقاف أن يصرح بذلك، أو أن يقر به، أو حتى أن يكشف تفاصيل اجتماعه مع المسؤولين الفرنسيين، وخاصة وزير الداخلية، حيث يُنظر إلى الإسلام في فرنسا كقضية أمنية.

وقد كتب أحد الكتاب ردًا على الوزير: هل تعتبر مؤسسة إمارة المؤمنين، التي تمثل المرجعية العليا لوزارة الشؤون الدينية، جزءًا من العلمانية، طالما أن المغاربة "علمانيون"؟ وهل ينسجم هذا مع العلمانية، أم أنه قد يؤدي إلى تنافر بينهما يستوجب التخلي عن إحداهما؟ وهل يجوز الإفطار علنًا في شهر رمضان، في حين أن القانون الجنائي يجرم ذلك، والوزير يصرح بأن كل فرد حر في أن يفعل ما يشاء؟

كان الأجدر بوزير الشؤون الدينية المغربي أن يقول لوزير الداخلية الفرنسي إن الدين يسر، وأن من تشدد في الدين غلبه، وأن الإسلام يدعو إلى المجادلة بالتي هي أحسن، وأن المسلم من سلم الناس من لسانه ويده، ولا شك أنه كان سيجد الكثير من الأدلة من المرجعية الإسلامية حول "تدبير الشأن الديني" في المغرب، بما يتفق مع الرفق واللين وعدم الغلو، بدلًا من الخوض في مرجعيات أخرى، يمكنه أن يشاطرها توجهاتها بصفته الشخصية، ولكن لا يحق له أن يصرح بذلك انطلاقًا من موقعه الرسمي.

أما الكارثة الثالثة، فتتمثل في وزير التعليم المغربي الجديد، الذي واجه صعوبة بالغة في قراءة نص مكتوب بالدارجة المغربية خلال أول ظهور إعلامي له في البرلمان، ولم يجد غضاضة في أن يجيب على الأسئلة الشفوية بالقول إن وزارته سترد عليها كتابة.. ولا ندري لماذا تسمى الجلسة أسئلة شفوية، إذا كان الرد سيكون كتابيًا؟ إن مستوى الوزير في اللغة العربية ليس متدنياً فحسب، بل يكاد يكون معدومًا، ولا يعرف عنه اهتمامه بالشأن العام، ولا إلمامه بقضايا التعليم، ومع ذلك يتم تكليفه بأهم قطاع في بناء الإنسان.

والحقيقة المرة هي أن هناك استهتارًا واضحًا بهذا القطاع الحيوي، إذ يتم تكليفه بتقنيين لا يفقهون شيئًا في قضايا التربية، ولا حتى في قضايا المجتمع، وكل ما يفعله أفضلهم هو تحسين الوضع المادي للمؤسسات التعليمية، أما محتوى التعليم وطرق التدريس، فهي قضايا عصية عليهم، حتى أنهم اعترفوا بجهلهم التام بها. فهل من قبيل الصدفة أن يتولى قطاع التربية أشخاص يجهلون اللغة العربية ويكرهونها، وعلى جهل تام بالجوانب الثقافية لبلدهم؟

أما المصيبة الكبرى، فتتجلى فيما كتبه السيد أحمد الشرعي في صحيفة "تايمز أوف إسرائيل"، منتقدًا قرار المحكمة الجنائية الدولية بتجريم رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع السابق يوآف غالانت، معتبرًا ذلك مساسًا بسيادة دولة إسرائيل وتدخلاً سافرًا في القضاء الإسرائيلي.

نحن في هذه القضية لسنا بصدد حرية الرأي، لأن حرية الرأي تفترض التعبير عن آراء يعتقد المثقف أو الصحفي أنها تتعارض مع توجهات فكرية يؤمن بها، أو مرجعية ينتمي إليها، أو مبدأ عام، ومن حقه أن يعارضها أو يفندها.

لكن حالة السيد الشرعي مختلفة تمامًا، فهو لم يسبق له أن تحرك في أي قضية تهم المغرب والمغاربة، ولم يكتب حرفًا واحدًا أو يدلِ بتصريح عندما ضرب الزلزال منطقة الحوز في المغرب، ولم يعرف عنه انخراطه في أي قضية إنسانية خارج إسرائيل، وكل مساهماته تتمحور حول الدفاع عن إسرائيل وتشويه صورة من يعارضها، كما يتضح في مقاله الذي كتبه بعد طوفان الأقصى بعنوان "كلنا إسرائيليون". أي أننا، في حالة السيد الشرعي، أمام ما يمكن اعتباره خيانة لدولة أجنبية، وفقًا لما ورد في بيان لحزب العدالة والتنمية.

تكمن الخطورة، كما أشارت بعض الأقلام الصحفية، في أن السيد الشرعي كان مدعومًا من قبل جهات أمنية في فترات سابقة للرد على الصحافة الحرة، إبان أوج قوتها، ويحظى برعاية كبيرة، مثلما تسرب في الصحافة من أشخاص كانوا مقربين من الأوساط الأمنية، ويتحدثون بلسانها، وينطقون بخطابها.

فهل هي مجرد صدفة عابرة؟ أم أن هناك دوافع خفية وراء هذه التصرفات؟ كما كتب أحد الصحفيين الذي اعتبر أن تصريحات الشرعي تستدعي قراءتين: إما أنها بمثابة اختبار، أو أن السيد الشرعي قد تجاوز الحدود وأصبح أكبر من أن يمتثل لأوامر من يدعمونه.

لقد أصبحت العديد من الهيئات المؤثرة مخترقة، وهو ما يهدد سياسة الدولة، ويقلب سلم القيم، ويرفع من شأن من يتفق مع توجهاتها، ويحط من قدر من يخالفها، ويزدريه في أحسن الأحوال، ويضيق عليه في الغالب.

كنا نُحسد في المغرب، لفترة طويلة، على عقلانيتنا وعمق رؤيتنا، لكن ما نشهده على مستوى النخب السياسية والإعلامية والفكرية يظهر شرارة نار قد تأتي على هذا الرصيد الذي كنا نعتز به ونتباهى به.

لم يعد اليساري يساريًا بالمعنى المتعارف عليه، وأصبح وزير الشؤون الدينية مدافعًا شرسًا عن العلمانية، ووزير التعليم غير متعلم لا يجيد التعبير، والخيانة أصبحت تعتبر حرية رأي.

ومما يزيد الطين بلة، ما كتبه صحفي مغربي عن الواقع المرير الذي تعيشه الجامعة المغربية، حيث تفشت السرقات العلمية في الرسائل والأبحاث، والمحاباة والرشوة للترقية في المناصب، و"القصاير" على مستوى بعض الأساتذة، أي الحفلات الماجنة التي تستغل فيها بعض الفتيات لأغراض دنيئة لا علاقة لها بالتعليم والمعرفة.

لا يمكننا الحفاظ على الرصيد الذي ميز المشهد الثقافي المغربي، الذي أنجب عمالقة أثروا المكتبة العربية وأمدوها بأدوات عقلانية، في ظل هذا التدهور الذي تشهده الجامعة.

ليس هذا هو المغرب الذي كان يحلم به جيل ما عرف بالانتقال الديمقراطي. لا شك أن المغرب حقق قفزة نوعية في البنية التحتية، ولكنه شهد تراجعًا خطيرًا في القيم والمبادئ، حتى كاد أن يصبح بلا نخب سياسية وثقافية.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة